دوام كامل أو آداء كامل
لقراءة المقال انقر هنا ليس هناك علاقة حقيقية أو عادلة بين عدد ساعات العمل والإنتاجية، إلا في بيئات العمل الإيجابية التي تُعلي من قيمة النتائج لا الوقت فالبقاء لساعات طويلة على المكتب لا يعني بالضرورة أن الموظف منتج ! كما أن الغياب عن المكتب لا يعني الكسل أو الإهمال , الإنتاجية مفهوم نسبي يتأثر بعوامل كثيرة منها طبيعة العمل، شخصية الموظف، وأهمها على الإطلاق: جودة بيئة العمل.
البيئة التي تسودها الإيجابية وتُدار بحكمة وتفهم غالبًا ما تُثمر إنتاجية عالية تفوق التوقعات وعلى العكس حين تكون بيئة العمل محبطة ومليئة بالضغوط دون داعٍ تنخفض إنتاجية الموظفين بشكل واضح حتى وإن التزموا حرفيًا بجداول الحضور والانصراف.
الإدارة التقليدية ما زالت تظن أن الإنتاجية تعني التواجد المكاني حيث أن بعضهم يرى أن تقليص ساعات العمل نوع من “الدلع” أو أنه سيقود لتراجع الأداء لكن الواقع يقول خلاف ذلك ، فقد أثبتت التجارب بإدارة الإنتاجية الحديثة و الحكيمة أن الحضور ازداد والاستئذان قل ! بل إن بعض الموظفين صاروا يفضلون البقاء طواعية بعد انتهاء دوامهم الرسمي. أليس ذلك مثيرًا للتأمل؟
منطقيًا، ما الذي يمكن أن تستفيده المؤسسة من موظف مجبر على التواجد لكنه فاقد للدافعية؟ لا شيء سوى استنزاف الوقت والتكاليف دون عائد حقيقي ! وهنا لا أدعو إلى تجاهل قيمة الالتزام بساعات العمل خصوصًا في الوظائف التي تتطلب التواجد المكاني ولكنني أُشدد على أهمية فهم العلاقة بين بيئة العمل والتحفيز وبين الإنتاجية الحقيقية ومجرد التواجد الجسدي.
من الأفضل أن نقيس الأداء بجودة النتائج لا بعدد الساعات حيث أن المؤسسات التي تعتمد على مبدأ “العمل الذكي” لا “العمل الطويل” غالبًا ما تكون أكثر راحة وتحفيزًا لموظفيها ، الموظف حين يشعر بالثقة والمرونة والاحترام، سيمنح عمله أفضل ما لديه بإخلاص، وجودة، وابتكار.
ما نحتاجه اليوم هو تغيير الروتين، ضخ طاقة إيجابية جديدة في بيئات العمل، ومنح الموظفين فرصة للشعور بالرضا الوظيفي. كثير من الموظفين ينهون مهامهم في وقت مبكر من اليوم، لكنهم يُجبرون على البقاء لساعات دون جدوى فقط لإثبات الانصراف ! لماذا هذا التمثيل الشكلي؟ خاصة إذا كانت المهام منجزة؟ في الواقع هذا يعكس هدرًا في الطاقة والموارد ولا يسهم بأي شكل في رفع الكفاءة.
لكن لا يمكن تطبيق هذا المفهوم دون ضوابط ومعايير يجب أن تكون هناك مسؤوليات محددة و مؤشرات أداء واضحة وأطر زمنية محددة لإنجاز المهام حيث أن بعض الأعمال لا تحتمل التأجيل وهنا تبرز أهمية التوازن بين المرونة والالتزام لأن كثيرًا من المؤسسات رغم انضباطها الشكلي تعاني من ضعف في جودة الإنتاج أو حتى في قدرتها التنافسية.
مفهوم الإنتاجية الحديثة يحقق مكاسب كثيرة ومنها : يقلل من الزحام المروري و يخفف التوتر العصبي المرتبط بالدوام الصارم ويمنح الموظف فرصة لتطوير نفسه ويحسّن جودة الحياة.
الدراسات أثبتت أن الإنتاجية تنخفض كلما زادت ساعات الدوام، وأن طول يوم العمل يؤثر سلبًا على صحة الموظف النفسية والجسدية. الموظف حين يخرج منهكًا من العمل لا يملك طاقة لأي شيء آخر ولا حتى لعائلته و أصدقاءه وتتكرر الدائرة المملة بين “دوام ونوم” مما يقتل روح الابتكار والتطور.
تقليص ساعات العمل أو حتى أيام العمل يساهم في تحسين جودة حياة الموظف ويمنحه مساحة للتطوير الذاتي ما ينعكس إيجابيًا على المؤسسة ، واليوم مع أتمتة المهام وتسارع التقنية التكنولوجية يمكن إنجاز أعمال كانت تتطلب شهورًا و أعوام في أيام أو حتى ساعات.
المعادلة ليست في البصمة، بل في العقل لأنه أسهل ما يمكن أن تقوم به أي إدارة هو فرض أنظمة صارمة للحضور والانصراف لكن الأصعب والأهم هو أن تحتفظ بالكفاءات ، التحدي الحقيقي ليس في ضبط الوقت بل في الحفاظ على الموظفين المبدعين وتمكينهم.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما الفرق بين موظف منتج وآخر يضيّع وقته في مواقع العمل ونايم بالعسل ؟ كلاهما ملتزمان بالحضور ويتقاضيان نفس الراتب. الفرق هنا في الإدارة، لا الموظف.
البيئات التي تقيس الأداء بالإنتاجية لا بالساعات، أثبتت أن موظفيها أكثر سعادة وتوازنًا وأكثر التزامًا، وحتى أكثر صحة! حيث انخفضت الإجازات المرضية وتراجعت آثار الضغوط النفسية.
والدليل على كل ما سبق؟ ببساطة: انظر إلى أداء الموظف يوم " الخميس الونيس " تجد أفضل إنتاجية قبل الإجازة لأنه حريص على إنهاء مهامه في وقت قياسي ! هذا المثال الصغير يؤكد أن الدافع الداخلي والمرونة أهم بكثير من الالتزام الصوري بالوقت.
لقد حان الوقت لأن نعيد النظر في الطريقة التي نقيس بها أداء الموظفين ، الإنتاجية هي الهدف الأهم وما دونها مجرد أدوات يجب أن توظف بذكاء ، فحين نُحسن بيئة العمل فإننا لا نُحسن فقط حياة الموظفين بل نُعلي من شأن مؤسساتنا ككل .
تعليقات
إرسال تعليق